بسم الله الرحمن الرحيم
تمثل الحوزة العلمية الموروث النفيس الذي ورثناه من المعصومين (ع)، فقد انعقدت الحلقات الدراسية الاولى في عصر النبي الاكرم (ص) ثم استمرت طوال حياته الشريفة و واصلت المسير على يد خلفائه الشرعيين و عيبة علمه (ص) الائمة الاطهار من أهل بيته (ع). و قد رفعت الحوزة على مر التاريخ راية المفاهيم الاسلامية الاصيلة و كانت الحامية و الحافظة لميراث أهل البيت (ع). و قد تحمل العلماء في هذا المسير الكثير من العناء و بذولوا قصارى الجهود للاستفادة مما وصل اليهم عن طريق أهل البيت (ع) متأملين و مدققين فيه ليستخلصوا منه ماءً فراتاً يروي غليل العطاشى لنمير المعارف الاسلامية.
و من الخصائص البارزة التي امتازت بها الحوزات العلمية الشيعية التطور و الحركية و مواكبة ركب التحولات و التغيرات الاجتماعية و السياسية، و قد سعى المفكرون و العلماء الشيعة في وضع الحلول الناجعة لكل ما يفرزه الزمان من خلال معالجة الاشكلات المثارة و تلبية الحاجات التي تقتضيها الازمنة و الامكنة، و حسب تعبير الامام الخميني (ره): إن الحوزة العلمية تمسك بنبض المجتمع الثقافي و هي رائدة في هذا المجال، و تتحرك بخطوات تسبق زمانها. انها كانت مصدر التحول و التطور في المجتمع و ستبقى على نفس المسير و المنوال. و من نماذج هذا التحول و الانجازات الدّالة على ما ندعيه من رائدية الحوزات العلمية، انتصار الثورة الاسلامية و قيام الحكومة في ايران، الامر الذي لم يكن يصدقه - قبل ثلاثة و ثلاثين عاما- أحد و لم يتجاوز كونه مجرد افكار لم تحظ بنصيب من التصديق، فلم يكن من الممكن التصديق بان الدين ستكون له كلمته في جميع المجالات و الصعد الاجتماعية و السياسية و بهذا الحضور الفاعل و الشامل. و لكن تحقق ذلك التحول الكبير و تغيرت طريقة التفكير في العالم و ذلك ببركة حضور الامام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) الذي هو ابن هذه الحوزة و المتربي في احضانها، و ببركة الجهود و الطاقات التي بذلها مراجع الدين العظام و فضلاء الحوزة، الامر الذي أدى الى التحول في مسيرة البشرية و وجهتها. ثم ان الذي حصل لا ينحصر في ايران و لا يختص بها، بل لا يختص بعالم التشيع او العالم الاسلامي، بل شمل التحول العالم باسره. و هو مدين في ذلك كله الى الحوزات العلمية، و رائديتها و قوة فكرها و عمقه. و سيبقى الامر على نفس المنوال و كما قال السيد القائد المعظم (مد ظله العالي) في زيارته الاخيرة: ان التحول قضية سيالة مستمرة الوقوع لا تعرف التوقف أبداً. و قد انجزت خلال عمره الثورة المباركة في الثلاثة و ثلاثين عاما الاخيرة خطوات كبيرة لمعالجة المشكلات و بذلت جهود جبارة في وضع الحلول المناسبة و وضع الحوزة في المستوى الذي يجعلها - كما كانت- الرائدة في مواكبة التحولات الاجتماعية بل السباقة في الحركة.
و كما قال سماحة السيد القائد (مد ظله العالي)، لابد من ادارة التحول و لابد - كما أكد سماحته- ان تكون الادارة تحت اشراف مراجع التقليد العظام و بواسطة ادارة فاعلة على علم بالتحولات، و ضرورة هذه القضية بحد من الوضوح فلا يرتاب فيها أحد. لقد كان خطاب القائد المعظم الذي القاه في اوساط الحوزويين في مدينة قم المقدسة، موجهاً للمفكرين و الفضلاء و على رأسهم المراجع العظام في الحوزة بان يتصدوا لادارة هذا التحول.
الأمر المهم الذي اشار اليه السيد القائد في زيارته الاخيرة – بسبب المسائل التي حصلت و الذي سماحته على علم بها- هو توضيح مفهوم التحول. و كان السبب في اثارة هذه القضية هي انه من الممكن ان يحصل التحول و لكنه تحول في الاتجاه المعاكس و رجوع القهقرى و من قبيل الخطأ و الانحطاط. لماذا اثار سماحته هذه القضية؟ و لماذا أكد على دعم الاسلوب الاجتهادي المتبع في الحوزة العلمية و تقويته؟ و لماذا حكم على كل مشروع او برنامج يخل بطريقة الاجتهاد المتبعة بانه غلط؟ لماذا كل ذلك؟ لاشك انه قلق من حصول الفهم الخاطئ من تفسير التحول و لو كان ناشئاعن حسن نيّة، و صدق و تحرق. ان هذا الخلل سيؤدي الى ابتعاد مسير الحوزة عمّا هي عليه. حتما انكم قرأتم كلامه حفظه الله. هذا هو الواقع، ان الاسلوب الحوزوي أرقى من كل الاساليب المتبعة في المراكز العلمية العالمية المتطورة. فلو كان قد تفوهنا بهذا الكلام قبل هذا اليوم، لامكن أن يقال لنا بانكم لاتعلمون ما يدور في العالم! اما اليوم فلا يستيطع احد ان يقول ذلك لاننا لاندعي ذلك جزافا و انما عن علم و تجربة. فلو قال السيد القائد إن المراكز العلمية العالمية تسعى للاقتداء بالاسلوب الحوزوي، انما يعبر عن واقع لاريب فيه. ان الوقت لا يسعفني هنا لاذكر لكم الكثير من الامثلة التي عشتها شخصيا و واجهتها في الكثير من الجامعات المختلفة و المراكز العلمية العالمية المتعددة و بحضور قادة مختلف الاديان و شخصياتهم. لكن ذلك حقيقة لامرية فيها. من هنا يجب ان تكون البرامج المطروحة في الحوزة تأخذ بعين الاعتبار الاحتفاظ على المنهج المتبع في الحوزة العلمية.
و من الامور التي أشار اليها القائد المعظم (مد ظله العالي) هي خصوصية انتخاب الاستاذ، و هذه قضية تنظر اليها المراكز العلمية المتطورة و التربية و التعليم نظرة جادة و توليها أهمية كبيرة و هم يبذلون أموالا طائلة من أجل الاقتراب من هذه الاسلوب و ايجاد فضاء يتمكن الطالب فيه من انتخاب الاستاذ الذي يريد التلمذ عليه، و انهم بالرغم من كل هذه الاموال التي بذلوها لم يوفقوا بالمستوى الذي ينبغي. ان الجامعات العالمية الكبرى هي وليدة هذا الاسلوب الامثل، فعلى سبيل المثال نرى جامعة كريستون الامريكية قد بدأت مشوارها العلمي في اوائل الحرب العالمية الثانية معتمدة على هذا الاسلوب، و لكنها لم تصل الى الهدف بالنحو الذي كانت تصبو اليه. و الحال نحنن نرى طريقة انتخاب الاستاذ بحرية يعد أمراً متعارفا و طبيعيا في الاوساط الحوزوية، و كان لهذا الانتخاب ثماره الكثيرة.
قبل عدة اعوام كان بعض الاخوة يساورهم القلق و الخشية من ان طريقة انتخاب الاستاذ قد تؤدي الى شحة المدرسين في الدروس التي تحتاج الى عدد كبير من الاساتذة، او حصول فائض في اساتذة بعض المواد الاخرى و ذلك لان الاستاذ يختار المادة على مذاقه و اختياره! هذا القلق و الخشية دعتهم الى دراسة القضية دراسة جادة استمرت سنتين او ثلاث سنين. و الجدير بالذكر ان الذي تصدى لمسؤولية هذا الدراسة جناب السيد علي اكبريان الذي سبقني بالقاء كلمته اليوم. و كانت نتيجة ذلك التحقيق و الدراسة بالنسبة لنا مثاراً للعجب الشديد حيث اكتشفنا اننا لم نكن ندرك عمق الطاقات و الامكانات التي تمتلكها الحوزة، و عندما انجزت الدراسة ادركنا و شاهدنا المحافظة على حالة التوازن و التعادل بين العرض و الطلب دائما، بمعنى ان الدروس المعروضة بكثرة تجد في المقابل عددا كبيرا من الطلاب ينتسبون اليها و يبحثون عنها، و العكس صحيح. و من هنا توصلنا الى نتيجة مهمة مفادها ان تدخلنا في هذه القضية قد يؤدي الى الاختلال. من هنا اعلن الاخوة في تقرير رسمي بان نتيجة البحث افضت الى عدم التدخل في هذا الشأن و ذلك لان الحوزة العلمية عندها القدرة على تنظيم نفسها بنفسها.
الأمر الآخر الذي اشار اليه سماحة القائد (مد ظله العالي) – بطبيعة الحال ان هذه القضية غير غائبة عنكم ايها السادة- و اسمحوا لي ان اقول لكم: قمنا قبل عددة ايام بزيارة لسماحة آية الله جوادي آملي (حفظه الله) و قد عبر سماحته عن هذه القضية (الملتقى الدوري لاساتذة الحوزة) بكلام أرى من المناسب جداً انقله للاخوة هنا حيث قال سماحته: ان هذا الملتقى لا نظير له في البلاد. حيث اجتمع هذا الكم من الفضلاء، العلماء، المفكرين بهذا المستوى من التواضع.
و ما اردت قوله: إن الذي يعنيه السيد القائد - و لاريب انه لم يغب عنكم ايها العلماء – هو ضرورة ان تتصدى الحوزة لتلبية الحاجات و حل الاشكاليات المعاصرة. و المراد من التحول في كلامه هو الحفاظ على الاسلوب المتبع و استغلال العمق الموجود في المحتوى لوضع الحلول الناجعة و جعل المعالجات تساير حركة الحياة و ان نواصل الحركة في هذا المسير. و من الواضح ان جميع الاخوة يعلمون ان هذه المجموعة تواصل عملها معتمدة في ذلك على الدعم و الحماية و الارشاد الذي يوفره مراجع الدين العظام و و علم سماحة السيد القائد بعملهم و توصياته و ارشاداته.
قبل انعقاد الجلسة الاولى من الملتقى الدوري تشرفت بخدمة السيد القائد (مد ظله العالي) وعرضت على سماحته ان في الحوزة العلمية هناك حركة فعالة تسعى لتأليف هذا الجماعة من دون ان يدعمها احد او يخطط لها من الخارج. فاستقبل سماحته الفكرة بارتياح الا انه حذر من الوقوع في الافراط او التفريط. و ليتأمل الاخوة انه خاطب جماعة المدرسين قبل ست او سبع سنين و طلب منهم ان يكون لهم ارتباط فاعل، فقلنا سمعا و طاعة. و ذهبنا لزيارة المرحوم آية الله المشكيني (رضوان الله عليه) و عندما عرضنا عليه ما نروم فعله و ما هي المسؤولية التي تكفلت بها هذه المجموعة؛ قال رحمه الله: انكم تقومون بواجب ظل مطروحا على الارض و لايوجد من هو أجدر و اليق منكم في تحمل هذه المسؤولية.
(و أود هنا أن ارفع اسمى آيات الاحترام و الترحيب بسماحة آية الله العظمى الصافي الكلبايكاني (حفظه الله) الذي تجشم عناء الحضور هنا متفضلا و متكرماً مع ما يعانيه من الضعف البدني، و ما ابداه حفظه الله من تكريم و تجليل لكم ايها الاخوة الامر الذي يعكس اهتمام مراجع الدين بشأن الحوزة، فله منا الف تحية و اكرام، و ساحاول اختصار كلامي بالقدر الممكن).
المهم هنا ما قلته ان المرحوم آية الله المشكيني بعد ان عرضنا في خدمته المهمة التي نروم القيام بها، كانت ردة فعله رحمه الله أن قال: إنكم تقومون بواجب ظل مطروحا على الارض و لايوجد من هو أجدر منكم و اليق في تحمل هذه المسؤولية.
و مع ما كان يعانيه رحمه الله من المرض الذي انهك بدنه حيث كان يعيش اخريات حياته، و مع ذلك كله اعلن عن استعداده للحضور في احدى جلساتنا و القاء كلمة على الحضور، الا انه و لشديد الاسف لم نوفق لحضوره بيننا حيث جاء امر الله تعالى الذي لاراد له.
بعد هذا الرجل الكبير واصلنا اللقاءات مع مسؤولي جماعة المدرسين المحترمين كسماحة آية الله اليزدي و كنا نتواصل معه و نعرض عليه كل ما يستجد من المسائل. و يتذكر الاخوة انه حفظه الله قد اشترك في العام الماضي و القى كلمة في الملتقى حيث قال: اود أن اشترك في هذه الملتقى و اعرض بعض المسائل على الاحبة.
إذن، الملتقى الدوري لاساتذة الحوزة العلمية لا يروم -كما يتوهم البعض- ان يختط لنفسه طريقا غير طريق الحوزة. ان الملتقى الدوري لاساتذة الحوزة يحضره مجموعة من اعضاء جماعة مدرسي الحوزة العلمية بصورة دائمة و فعالة.
هذا، و لابد من الالتفات – كما قال السيد القائد (مد ظله العالي) الى أن كل تحول في الحوزة لابد أن يراعي المعايير المتبعة في الحوزة و لابد ان يكون بالمستوى الذي يلبي الحاجات اليومية للمجتمعات الاسلامية. و ان يكون تحت اشراف و توجيه المراجع العظام و الاستفادة من رؤى المختصين في الشأن الحوزوي. و لاريب اننا لو اعتمدنا هذا الاسلوب و سرنا على هذا الطريق الذي رسمه السيد القائد (مد ظله العالي) و الذي اشار اليه في كلامه الاخير، و جعلنا كل ذلك نصب اعيننا – و سيكون الامر كذلك انشاء الله- فسنوفق انشاء الله تعالى لادارة التحول في الحوزة، بمعنى ان مجموعة الهيكل الحوزوي ستقوم بهذه المهمة، بتكاتف الجهود و تضافر الهمم نكون قد جعلنا من الحوزة اكثر حيوية و قدرة. و انشاء الله سنكون من حملة لواء ظهور الامام المنتظر(عج).[1]
[1] الكلمة التي القاها سماحة آية الله هادي الطهراني في الملتقى الدوري لاساتذة الحوزة العلمية للدراسات العليا (السطوح و ابحاث الخارج) في مدينة قم بتاريخ 29/10/89.